الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن حديثنا عن القرآن الكريم وأثره في اللغة العربية، حديث الشيء عن ذاته، فالقرآن الكريم عربي المبنى فصيح المعنى، وقد اختار الله تعالى لكتابه أفصح اللغات فقال تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً( [الزخرف: 3] وقال تعالى: (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين( [الشعراء: 195]، وقال تعالى: (قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون( [الزمر: 28].
ومن الراجح أن اللغة العربية هي أقدم اللغات على الإطلاق، كما بينت الدراسات الحديثة وأنها اللغة التي علّم الله بها آدم الأسماء كلها، وهي لغة أهل الجنة كما ورد في الحديث: "أَحِبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي" (2).
ومن هذا المنطلق نجد الثعالبي يعبر عن هذه اللغة أبلغ تعبير فيقول في مقدمة كتابه الشهير فقه اللغة وسرّ العربية: "من أحب الله تعالى، أحب رسوله محمداً (، ومن أحب الرسول العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية، ومن أحب العربية عني بها، وثابر عليها، وصرف همته إليها، ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان، وآتاه حسن سريرة فيه، واعتقد أن محمداً ( خير الرسل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة، إذ هي أداة العلم، ومفتاح التفقه في الدين، وسبب إصلاح المعاش والمعاد، ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها، والوقوف على مجاريها ومصارفها، والتبحر في جلائلها ودقائقها إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن، وزيادة البصيرة في إثبات النبوة التي هي عمدة الإيمان، لكفى بها فضلاً يحسن أثره، ويطيب في الدارين ثمره" (3).
ومن هنا اكتسبت اللغة العربية القداسة النورانية والخلود السرمدي، قال الله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون( [الحجر: 9] فبحفظ الله تعالى كتابه يحفظ اللغة العربية، فهي باقية ببقائه إلى يوم الدين، ويمكننا ذكر أهم ما أحدثه القرآن الكريم في اللغة العربية من آثار فيما يلي:
1-المحافظة على اللغة العربية من الضياع:
ذكرت فيما سبق أن السر الكامن وراء خلود اللغة والحفاظ عليها من الاندثار هو القرآن الكريم بما كان له من أثر بالغ في حياة الأمة العربية، وتحويلها من أمة تائهة إلى أمة عزيزة قوية بتمسكها بهذا الكتاب الذي صقل نفوسهم، وهذب طباعهم، وطهر عقولهم من رجس الوثنية وعطن الجاهلية، وألف بين قلوبهم وجمعهم على كلمة واحدة توحدت فيها غاياتهم، وبذلوا من أجلها مهجهم وأرواحهم، ورفع من بينهم الظلم والاستعباد، ونزع من صدورهم الإحن والضغائن والأحقاد، فقد كان القرآن الكريم ولا يزال كالطود الشامخ يتحدى كل المؤثرات والمؤامرات التي حيكت وتحاك ضد لغة القرآن، يدافع عنها، ويذود عن حياضها، يقرع أسماعهم صباح مساء، وليل نهار بقوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله، وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين( [البقرة: 23 –24]، وقوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً( [الإسراء: 88] فلما كان القرآن الكريم بهذه المنزلة لا جرم أن المسلمين أقبلوا عليه ودافعوا عنه، واعتبروا أن كل عدوان على القرآن هو عدوان على اللغة العربية، وأن النيل من اللغة العربية هو نيل من القرآن، ولذلك فإن بقاء اللغة العربية إلى اليوم وإلى ما شاء الله راجع إلى الدفاع عن القرآن، لأن الدفاع عنه –لكونه أصل الدين ومستقى العقيدة- يستتبع الدفاع عنها لأنها السبيل إلى فهمه، بل لأنها السبيل إلى الإيمان بأن الإسلام دين الله، وأن القرآن من عند الله لا من وضع أحد.
يقول الباقوري: "ولو فرضت أنه نزل كما نزل غيره من الكتب المقدسة، حكماً وأحكاماً، وأمراً ونهياً، ووعداً ووعيداً، ولم يتحر هذا الأسلوب الذي جاء به، فلم يعن الناس بلفظه ولم ينظروا إليه قولاً فصلاً، وبياناً شافياً، وبلاغة معجزة، لكان من الممكن أن تزول هذه اللغة بعد أن يضعف العنصر الذي يتعصب لها على أنها لغة قومية، ومن ذلك تضعف هي وتتراجع حتى تعود لغة أثرية.
وفي اللغة العبرية ما يؤكد هذا، فإنها –وهي لغة كتاب مقدس –صارت إلى ذمة التاريخ، ولو أن التوراة جاءت كما جاء القرآن فتحدت اليهود على النحو القرآني لاحتفظوا بلغتهم لأن في ذلك احتفاظاً بمعجزة نبيهم، فكان ممكناً أن نرى لغة موسى عليه السلام" (4).
ويبدو هذا الأمر واضحاً لمن تتبع اللغات وما تعرضت له من انقسام وانشطار واندثار بعد أن كانت لغة عالمية محكية وصناعية، وليست اللغة اللاتينية عنا ببعيدة فقد كانت لغة وحضارة وسطوة وقوة فبقيت أثراً بعد عين.
وعلى العكس من ذلك فإن اللغة العربية لم تكن لها هذه القوة وهذه المنعة، وليست لغة حضارة وصناعة، إنما كانت لغة صحراء وأمية، بكل ما تفرضه بيئة الصحراء من بساطة وضيق عيش، وبعد عن العلوم والمعارف، ثم إن العرب قد تعرضوا للحروب والدمار كغيرهم، ولكن ما زالت لغتهم قوية ساطعة تنبض بالحيوية والنشاط، وما ذلك إلا بفضل القرآن الكريم، الذي تكفل الله بحفظه، فحفظ به اللغة التي نزلت به، ولم يتكفل بحفظ غيره من الكتب المقدسة فبادت اللغة التي نزلت فيها واندثرت.
2-تقوية اللغة والرقي بها نحو الكمال:
منح القرآن الكريم اللغة العربية قوة ورقياً ما كانت لتصل إليه لولا القرآن الكريم، بما وهبها الله من المعاني الفياضة، والألفاظ المتطورة والتراكيب الجديدة، والأساليب العالية الرفيعة، فأصبحت بذلك محط جميع الأنظار، والاقتباس منها مناط العز والفخار، وغدت اللغة العربية تتألق وتتباهى على غيرها من اللغات بما حازت عليه من محاسن الجمال وأنواع الكمال، وفي هذا يقول العلاّمة الرافعي رحمه الله: "نزل القرآن الكريم بهذه اللغة على نمط يعجز قليله وكثيره معاً، فكان أشبه شيء بالنور في جملة نسقه إذ النور جملة واحدة، وإنما يتجزأ باعتبار لا يخرجه من طبيعته، وهو في كل جزء من أجزائه جملة لا يعارض بشيء إلا إذا خلقت سماء غير السماء، وبدلت الأرض غير الأرض، وإنما كان ذلك، لأنه صفى اللغة من أكدارها، وأجراها في ظاهره على بواطن أسرارها، فجاء بها في ماء الجمال أملأ من السحاب، وفي طراءة الخلق أجمل من الشباب، ثم هو بما تناول بها من المعاني الدقيقة التي أبرزها في جلال الإعجاز، وصورها بالحقيقة وأنطقها بالمجاز، وما ركبها به من المطاوعة في تقلب الأساليب، وتحويل التركيب إلى التراكيب، قد أظهرها مظهراً لا يقضى العجب منه لأنه جلاها على التاريخ كله لا على جيل العرب بخاصته، ولهذا بهتوا لها حتى لم يتبينوا أكانوا يسمعون بها صوت الحاضر أم صوت المستقبل أم صوت الخلود لأنها هي لغتهم التي يعرفونها ولكن في جزالة لم يمضغ لها شيح ولا قيصوم" (5).
هذا ما عبر به إمام العربية الرافعي رحمه الله، وليس هو فحسب، بل اعترف أعداء العربية من المستشرقين وغيرهم بقوة اللغة العربية وحيويتها وسرعة انتشارها، فيقول "أرنست رينان": "من أغرب ما وقع في تاريخ البشر، وصعب حل سره، انتشار اللغة العربية، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ بدء، فبدأت فجأة في غاية الكمال، سلسة أي سلاسة، غنية أي غنى، كاملة بحيث لم يدخل عليها إلى يومنا هذا أي تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأول أمرها تامة مستحكمة، من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القومية وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمّة من الرحل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها، وحسن نظام مبانيها، وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم علمت ظهرت لنا في حلل الكمال إلى درجة أنها لم تتغير أي تغيير يذكر، حتى إنه لم يعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة، ولا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى..." (6).