محمد بن عبد الله بن صالح السحيم
قضى الله أن يخلق خلقا جديرا بعمارة هذا الكون ، فكان هذا المخلوق هو الإنسان ، واقتضت حكمته سبحانه أن تكون المادة التي يخلق منها الإنسان هي الأرض ، وبدا خلقه من طين ، ثم صوره على هذه الصورة الحسنة التي عليها الإنسان ، فلما استوى متكاملا في شكله نفخ فيه من روحه ، فإذا هو إنسان في أحسن تقويم ، يسمع ويبصر ويتحرك ويتكلم ، فأسكنه ربه جنته ، وعلمه كل ما يحتاج إلى معرفته ، وأباح له كل ما في هذه الجنة ، ونهاه عن شجرة واحدة - ابتلاء وامتحانا - وأراد الله أن يظهر منزلته ومكانته ، فأمر ملائكته بالسجود له ، فسجد الملائكة كلهم أجمعون ، إلا إبليس امتنع عن السجود تكبرا وعنادا ، فغضب عليه ربه ، لمخالفة أمره ، وطرده من رحمته ، لأنه تكبر عليه ، فطلب إبليس من ربه أن يمد في عمره وأن يمهله إلى يوم القيامة ، فأمهله ربه ومد في عمره إلى يوم القيامة ، وحسد الشيطان آدم - عليه السلام - لما فضل عليه هو وذريته ، وأقسم بربه أن يغوي جميع بني آدم ، وأنه سيأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، إلا عباد الله المخلصين الصادقين المتقين ، فإن الله عصمهم من كيد الشيطان ومكره ، وحذر الله آدم - عليه السلام -
--------------------------------------------------------------------------------
من كيد الشيطان ، فوسوس الشيطان لآدم - عليه السلام - وزوجه حواء ، ليخرجهما من الجنة ، وليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما ، وأقسم لهما إني لكما ناصح ، وأن الله لم ينهكما عن تلك الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين .
فأكلا من تلك الشجرة التي نهى الله عنها ، فكان أول ما أصابهما من عقوبة على مخالفة أمر الله أن بدت لهما سوآتهما ، فذكرهما ربهما بتحذيره لهما من كيد الشيطان ، فاستغفر آدم - عليه السلام - ربه ، فغفر له وتاب عليه واجتباه وهداه ، وأمره أن يهبط من الجنة التي كان يسكنها إلى الأرض ، إذ هي مستقره ، وفيها متاعه إلى حين ، وأخبره أنه منها خلق وعليها يعيش وفيها يموت ، ومنها يبعث .
فهبط آدم - عليه السلام - إلى الأرض هو وزوجه حواء ، وتناسلت ذريتهما ، وكانوا يعبدون الله وفق ما أمرهم ، إذ كان آدم - عليه السلام - نبيا .
--------------------------------------------------------------------------------
وقد أخبرنا الله هذا الخبر فقال سبحانه : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ }{ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ }{ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ }{ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }{ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ } 36 { قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ }{ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }{ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ }{ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ
--------------------------------------------------------------------------------
}{ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ }{ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ }{ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ }{ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }{ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ }{ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } (1) .
_________
(1) سورة الأعراف ، الآيات : 11 - 25 .
--------------------------------------------------------------------------------
وحينما تتأمل عظيم صنع الله لهذا الإنسان ، حيث خلقه في أحسن تقويم ، وألبسه خلع الكرامة كلها من العقل ، والعلم ، والبيان ، والنطق ، والشكل ، والصورة الحسنة ، والهيئة الشريفة ، والجسم المعتدل ، واكتساب العلوم بالاستدلال والفكر ، واقتناص الأخلاق الشريفة الفاضلة من البر ، والطاعة ، والانقياد ، فكم بين حاله وهو نطفة داخل الرحم مستودع هناك ، وبين حاله والملك يدخل عليه في جنات عدن ؟ { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } (1) .
_________
(1) سورة المؤمنون ، الآية : 14 .
--------------------------------------------------------------------------------
فالدنيا قرية ، والإنسان ساكنها والكل مشغول به ، ساع في مصالحه ، والكل قد أقيم في خدمته وحوائجه ، فالملائكة الموكلون به يحفظونه آناء الليل وأطراف النهار ، والموكلون بالقطر والنبات يسعون في رزقه ويعملون فيه ، والأفلاك سخرت منقادة دائرة بما فيه مصالحه ، والشمس والقمر والنجوم مسخرات جاريات بحساب أزمنته وأوقاته وإصلاح رواتب أقواته ، والعالم الجوي مسخر له برياحه وهوائه ، وسحابه وطيره وما أودع فيه ، والعالم السفلي كله مسخر له ، مخلوق لمصالحه ، أرضه وجباله ، وبحاره وأنهاره ، وأشجاره وأثماره ، ونباته وحيوانه ، وكل ما فيه كما قال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ }{ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ }{ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } (1) ، ومن تمام
_________
(1) مفتاح دار السعادة ، جـ 1 ، ص : 327 ، 328 ، والآيات من سورة إبراهيم ، 32 - 34 .
--------------------------------------------------------------------------------
تكريمه أن خلق له جميع ما يحتاج إليه في حياته الدنيا ، وما يحتاج إليه من الوسائل التي تبلغه الدرجات العلى في الدار الآخرة ، فأنزل إليه كتبه ، وأرسل إليه رسله ، يبينون له شرع الله ويدعونه إليه .
ثم خلق له من نفسه - أي من نفس آدم عليه السلام - زوجا يسكن إليه ، ملبيا لحاجاته الفطرية - نفسية وعقلية وجسدية - بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار ، ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء والمودة والرحمة ، لأن تركيبهما الجسدي والنفسي والعصبي ملحوظ فيه تلبية وغائب كل منهما في الآخر ، وائتلافهما لإنشاء جيل جديد ، وأودعت نفوسهما هذه العواطف والمشاعر ، وجعلت في تلك الصلة سكنا للنفس والعصب ، وراحة للجسم والقلب ، واستقرارا للحياة والمعاش ، وأنسا للأرواح والضمائر ، واطمئنانا للرجل والمرأة على السواء .
--------------------------------------------------------------------------------
واختص الله المؤمنين من بين بني الإنسان ، فجعلهم أهل ولايته ، استخدمهم في طاعته ، يعملون له وفق شريعته ، ليكونوا أهلا لمجاورة ربهم في جنته ، اصطفى منهم الأنبياء والمرسلين والأولياء والشهداء ، ومنحهم في هذه الدنيا أعظم نعمة تنعم بها النفوس ألا وهي عبادة الله وطاعته ومناجاته ، واختصهم بنعم عظيمة - لا يجدها غيرهم - منها الأمن والطمأنينة والسعادة ، بل أعظم من ذلك أنهم يعلمون الحق الذي جاء به المرسلون ويؤمنون به ، وادخر لهم - في الدار الآخرة - من النعيم المقيم والفوز العظيم ما يليق بكرمه سبحانه ، ويكافئ إيمانهم به وإخلاصهم له ، بل ويزيدهم من فضله .
حكمة خلق الإنسان
سبق الحديث في الفقرة السابقة أن الله خلق آدم ، وخلق له زوجه حواء وأسكنهما الجنة ، ثم عصى آدم ربه ، ثم استغفره فتاب عليه وهداه ، وأمره بأن يخرج من الجنة ، وينزل إلى الأرض ، ولله سبحانه وتعالى في ذلك من الحكم ما تعجز العقول عن معرفته ، والألسن عن صفته ، وسنستعرض في هذه الوقفات شيئا من هذه الحكم فمنها :
1 - أن الله - سبحانه - خلق الخلق لعبادته ، وهي الغاية من خلقهم قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (1) ، ومعلوم أن كمال العبودية المطلوب من الخلق لا يحصل في دار النعيم والبقاء ، إنما يحصل في دار المحنة والبلاء ، أما دار البقاء فدار لذة ونعيم ، لا دار امتحان وتكليف .
_________
(1) سورة الذاريات ، الآية : 56 .
--------------------------------------------------------------------------------
2 - أنه - سبحانه - أراد أن يتخذ منهم أنبياء ورسلا وأولياء وشهداء يحبهم ويحبونه ، فخلى بينهم وبين أعدائه وامتحنهم بهم ، فلما آثروه وبذلوا نفوسهم وأموالهم في مرضاته ومحبته ، نالوا من محبته ورضوانه والقرب منه ما لم يكن لينال بدون ذلك أصلا ، فدرجة الرسالة والنبوة والشهادة من أفضل الدرجات عند الله ، ولم يكن ينال الإنسان هذا إلا على هذا الوجه الذي قضاه الله سبحانه من إهباط آدم - عليه السلام - وذريته إلى الأرض .
3 - أنه - سبحانه - الملك الحق المبين ، والملك هو الذي يأمر وينهى ويثيب ويعاقب ، ويهين ويكرم ، ويعز ويذل ، فاقتضى ملكه سبحانه أن أنزل آدم وذريته دارا تجرى عليهم فيها أحكام الملك ، ثم ينقلهم إلى دار يتم فيها جزاؤهم على أعمالهم .
4 - أن الله خلق آدم - عليه السلام - من قبضة من جميع الأرض ، والأرض فيها الخبيث والطيب ، والحزن والسهل ، فعلم سبحانه أن في ذرية آدم - عليه السلام - من لا يصلح لمساكنته في داره ؛ فأنزله إلى دار استخرج فيها الطيب والخبيث ، ثم ميزهم - سبحانه - بدارين : فجعل الطيبين أهل جواره ومساكنته ، وجعل الخبيثين أهل دار الشقاء دار الخبثاء .
--------------------------------------------------------------------------------
اتمنى انكم استفتو من الموضوع